في علم الفجور السياسي
رالف يونسلعلّ أخطر ما يهدّد مستقبل شبابنا اليوم، هو موجة الفجور السياسي المنظّم، المسلّطة على الأمّة عبر مؤسسات تشريعية وتنفيذية، وأحزاب، وحكومات، وشخصيات تعاني من اضطرابات في الممارسة السياسية، وفي روحية الخدمة الاجتماعية والمدنية. هذا الفجور تحديدًا... أجبر الطبقة الحاكمة على البقاء في قفص الاتهام السياسي، لكنه، من جهة أخرى، حرّرها من أغلال الحصار الاقتصادي، وأطلق يدها في ملفات فساد وسرقات تخطّت حدود المعقول بأشواط ضوئية. والأخطر من ذلك، أنه وهبها تقنياتٍ للتأثير الاجتماعي وللتنويم الجماعي.
فنحن من بين تلك الشعوب المنوَّمة والمُسيَّرة، التي لن تتمكّن يومًا من حسم معركة لصالحها، أو حتى كسب جولة في إطار الصراع المذهبي أو الإيديولوجي أو الجيوسياسي، إلا في حدود ضيّقة ومرسومة سلفًا.
لطالما وُجدت معانٍ وقواعد شرعية تُنزِل الأحكام على منطِق الممارسة، فتربط المهنة بأهلها؛ كالطب بالطبيب، والتجارة بالتاجر، والحكمة بالحكيم، والتربية بالمربّي، والعلم بالعالم، والفقه بالفقيه... وحدها السياسة في أوطاننا تشذّ عن القاعدة، فترتبط بالفاجر!
الأوطان، يا سادة، تُبنى بتوظيف الطاقات المتخصصة والمتأصّلة علميًا في مجالات السياسة، الاقتصاد، وعلم النفس، وبالقدرة على التواصل التي تبني جسرًا وجدانيًا مع الشارع، ترصد نبضه وتلبي مطالبه. ولعلّ أفضل ما يمهّد لشراكة فعلية بين الدولة ومواطنيها هو حقّ الوصول إلى المعلومات، عبر برنامج إلكتروني رسمي يُتيح للمواطنين الاطلاع على أرقام الموازنات، والمناقصات، والنفقات الرسمية، والتصويت عليها، والاعتراض أو حتى إيقافها في حدّها الأدنى.
على المواطن أن يشارك الدولة في تقرير كيفية إنفاق المال العام، وتحديد الأولويات وإقرارها بعيدًا عن الطائفية والمناطقية. حينها فقط، يمكن للمؤسسات الحكومية أن تكون على صلة حقيقية بالمجتمع وفعالياته المدنية والاجتماعية والثقافية والسياسية، في سبيل تعاونٍ مثمر يُنتج عملية إصلاح وتغيير جدّية، كفيلة بمواجهة الفجور السياسي وإخضاعه.
ولماذا محاربته وإخضاعه؟ لأن من يمارسه يخدم، بشكلٍ قاطع، كل مفاهيم الثورة الشعبية والانتفاضات القائمة على الشعور بالظلم والقمع والتهميش، سواء كان هذا الشعور حقيقيًا أو متوهّمًا، إذ يخلق لدى الشعوب رغبةً لا شعورية جارفة في الانتقام من جلاديها؛ أي كردّ فعل مبرّر ومستحث، مهما كانت حقيقة الواقع السياسي ونتائج ممارساته.
من هنا... فإن الإحساس بالقهر من طبقةٍ حاكمةٍ فاجرة ومتعجرفة يولّد رغبةً في الإدانة، ليس حبًا في الإدانة بحدّ ذاتها، بل لعلاج الحاجة النفسية العميقة لذلك.
إذاً، فإن فكرة تطويع الفجور، والاستعاضة عنه بممارسات سياسية متعارف عليها، ليست مجرّد خدمة للمواطن، بل هي حاجة وطنية ملحّة لخلق جو سياسي مستقرّ، يُخرج الممارسين من دائرة الشبهات، ويمنعهم، في الأزمات الشديدة، من الضغط على الشارع أو ابتزازه بلقمة عيشه.
تطويع الفجور السياسي يدفع حُكمًا باتجاه السلم السياسي والاستقرار الأمني، ويأتي بوجوهٍ حكيمة، تُدرك أصول فقه الأولويات والموازنات الداخلية والإقليمية، لتقودنا نحو أمن اقتصادي نابع من تسلسل طبيعي للأحداث، يُعيد تصويب العجلة الاقتصادية وتسريعها، ويعزلها عن المناكفات والأزمات السياسية الطارئة.
اليوم، تشهد ساحة الوطن صراعًا تاريخيًا ومسرح تجاذب بين مُدّعي الإصلاح الزائفين والدعاة الحقيقيين. فإلى أي جهة من "الرينغ" تنتمون؟ وعلى أي جهة من المدرجات... ستجلسون؟