ملء صفحات ثورة لا هامش لها
رالف يونسعادةً ما يكون الهامش مخصَّصًا لتدوين الملاحظات والتعليقات والمراجع في مُسَوَّدة ما، وهي غالبًا كتابة أولية لنصٍّ نهائي يُراد من خلاله إيصال أفكار وُلدت حرّة من كل قيد، إلّا إذا كان كاتبها تابعًا مُنحازًا يُملى عليه بأفكارٍ يُراد بها باطل.
شعبُنا، يا سادة... وعلى عكس ما يُروَّج له، يكتب ثورته دون مُسَوَّدة، ودون رفاهية الهامش ومساحته. نجده يبذل الحبر بدل الدماء، والأفكار بدل الأفعال، والنيّة بدل الإرادة، والأمل بدل الإصرار، ذاهبًا بطبيعة الحال نحو السلمية المطلقة في تحرّكاته، بدل الغضب الساطع الجارف.
لماذا هذا الاستنتاج؟ لأنّه، لو كان لشعبنا وقفات تأمّل مع تدوينات الهامش وما تحمله من تجارب ثورات تاريخية ونتائجها، لأيقن أن لا نجاح لثورة حافظت على سلميتها وانضباطها، ولا جدوى من ثورة أدخلت في صفوفها جماعات أرستقراطية من أصحاب الأعمال والمستثمرين والفاشنستاز، حوّلوا الشوارع إلى مهرجانات ومعارض وساحات رقص وفنون، فقط لإظهار صورة راقية كاذبة عن شعب يرزح تحت خطّ الفقر والعوز والجوع.
لا نجاح، يا سادة، لثورة تتلهّى عن مطالبها الكبرى ببعض القضايا الصغيرة لأفراد فتك بهم الجوع حتى باتوا أمواتًا أحياء. فإطعام فرد أو عائلة، أو تأمين دواء أو كساء لشريد، أو جمع مبلغ من المال لمعيل، لا يتعدّى كونه حلًّا مؤقتًا قصير الأجل لأناس يبحثون عن وطنٍ نهائيّ يضمن لهم عيشًا كريمًا ويجنّبهم ذلّ من يمعن في إفقارهم لشراء أصواتهم وصمتهم.
طبعًا، مساعدة هؤلاء ضرورة وواجب، ويُشكر كل من يمدّ يد العون لأبناء بلده، إلّا أنّ المساعدة الحقيقية الوحيدة لهم تكمن في التركيز على المطالب الكبرى الأساسية وعدم الانجرار نحو استعراضات خيرية يُراد بها تعبئة هواء إعلامي ما، أو تسويق لصورة فاعل خير، ففعل الخير واجب يُؤدّى في الظل، بعيدًا عن الأضواء، حفاظًا على ما تبقّى من كرامات.
ومن هنا، وبعد التشديد على عدم الاحتكاك بالقوى الأمنية أو التعدّي على الأملاك العامة والخاصة، تنخدع الثورات عندما يُشاد بها داخليًا وخارجيًا على أنها سلمية ومنضبطة، إذ لا يدلّ ذلك إلّا على فشلها بكل المقاييس، وعلى أنها من فئة "أنصاف الثورات". وأي خوف أو خجل أو تردّد في نقلها إلى مرحلة أكثر تطورًا باستخدام جرعة مناسبة من الضغط، يعني احتواء الثورة وتفكيكها من قِبل سلطة قمعية فاسدة.
وعلى قادة الساحات في المرحلة القادمة التوقّف فورًا عن ممارسة القمع المعنوي لكلّ ثائر غاضب يخرج عن طوره بسبب الجوع والعوز، وعدم لصق تهمة "المندسّ" به، لأنّهم بذلك يكونون أعداء الثورة الأخطر، والمساهمين الأكبر في خنقها وتمييعها. فالجياع وحدهم هم المحرّك والقلب والنّبض لكلّ انتفاضة، وشيطنتهم أو استبعادهم عن الساحات لا تعني سوى ضربة موجعة تفقد الثورة روحها ومغزاها الحقيقي.
هي إذًا لحظة فارقة في تاريخنا، وأيّ تلكؤ أو خطأ في الحسابات قد يُفوّت علينا فرصة تغيير حقيقيّ لن تتكرّر في جيلنا هذا، فالشعوب لا تنتفض بسهولة، ومن الصعب حدوث ثورتين في توقيت متقارب.
أمّا بعض وجوه الساحات المنتفضة، التي ترفض التنسيق والتحاور مع بعضها البعض أو مع أيّ طرف من أطراف السلطة، فأقول: إنّ معظم الثورات الناجحة عبر التاريخ أشارت إلى ضرورة وجود قيادة وإدارة تُوجّهها، يجمعها فكر وإيديولوجيا واحدة، تُنظّم التحرّكات، وتفرض الحوار بين مكوّناتها، وتوحّد المطالب الكبرى، وتحدّد خارطة الطريق لتحقيقها، كي لا تبقى الساحات ضحية عشوائية وغوغائية بعض المتسلّقين الطامحين إلى تسليط الضوء على أنفسهم وفرض أنفسهم ناطقين باسم الثوّار.
نعم... هي الجولة الثانية للثوّار على حلبة استعادة الحقّ... عسى أن تسقط السلطة هذه المرّة بالضربة القاضية.